واحات: والواحات البحرية تشبه الى حد بعيد الواحات الصحراوية، لكنها هنا عبارة عن مصادر مائية حرارية تنبثق عند عمق يبلغ 2500 متر ويقول العلماء طبقا لدراساتهم ان المادة الحية عند هذه الاعماق تزيد على 10 الى 100 ألف مرة عما هو موجود في مكان آخر في اعماق المحيطات، وفي بعض الاحيان نجد بعضا من هذه المصادر المائية الحرارية ينبثق بقوة حتى يصل الى ارتفاعات تصل الى 20 مترا وفي هذه الحالة يطلق العلماء تعبير المأرضة او (وكر الارض الاسود) ويصف العلماء هذا الوكر بالاسود، لأن السائل المنبثق منه يكون ممزوجا بمركبات معدنية داكنة تصل الى حد السواد، وفي العادة يظهر عند حواف هذا الوكر الارضي المحيطي نوع من الحياة يضم أنواعا من المحار المعروف “بالقفالة” نظرا لانه دائم الاقفال،
وبلح البحر والديدان الطويلة والسلطعون والقشريات وعدد كبير من الأسماك.
والجدير بالذكر ان المياه المنبثعة من هذه المصادر تكون في العادة حمضية ومليئة بمواد سامة كالهيدروجين المكبرت الذي تصل حرارته الى 350 درجة مئوية، ما يعني انه لا يوجد حيوان قادر على مقاومة هذه الحرارة، ولذا فإن الماء الخارج يذوب بسرعة من مياه البحر الجليدية عند تلك الاعماق وتهبط درجة حرارته الى 10 درجات مئوية فقط، وكلما ابتعدنا عن المصدر قلت نسبة السمية في الماء، الأمر الذي يجعل العديد من الحيوانات البحرية القادرة على تحمل الحرارة والسمية القليلة، ان تتخذ لنفسها وكرا للبحث عن الغذاء.
وهناك نوع من الديدان المعروفة علميا باسم “الفينيلا”، تفضل البقاء عند خاصرة المصدر المائي الساخن وذلك في المكان الذي يلتقي فيه مع المياه الباردة في المحيط حيث تكون نسبة الاكسجين والمواد السامة متغيرة باستمرار، وحتى الآن لا يعرف العلماء كائنا بحريا يستطيع تحمل الصدمة الحرارية في هذه المنطقة سوى هذا النوع من الديدان، فهبوط حرارة المياه من 80 درجة مئوية الى درجتين مئويتين ليس بالأمر السهل خاصة اذا حدث بشكل مفاجئ!
واذا كانت الكائنات البحرية بكافة انواعها تعتمد في جزء كبير من غذائها على العوالق الغذائية نظرا لاحتوائها على كمية مهمة من الاكسجين اللازم للتنفس، الا اننا نجد عددا كبيرا من هذه الكائنات قد تحرر من الاعتماد الكلي على البلانكتونات أو النباتات البحرية، وشغل نفسه بأنواع معينة من البكتيريا التي خلقت كي تعيش في ظروف صعبة كالتي تشهدها الاعماق السحيقة في المحيطات. والغريب في الأمر ان هذه البكتيريا تكون غذاءها من الهيدروجين المكبرت السام الممزوج بالأملاح المعدنية وثاني اكسيد الكربون ثم تحوله الى غذاء نافع لكافة الكائنات البحرية.
فعلى سبيل المثال نلاحظ ان دودة الافينيلا تلتهم هذه البكتيريا عند المصادر المائية الحرارية، اما القشريات “الربيان” فتربيها فوق فوهاتها الفموية الكبيرة. وفيما يتعلق بدودة الريفثيا التي تعيش في قنوات يصل طولها الى المترين، فتقوم باسكان البكتيريا داخل القنوات نظرا لعدم امتلاكها لفتحتي الفم والشرج. وتسهم الدودة في انماء البكتيريا بمدها بغازي ثاني اكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين، وعندها تقوم البكتيريا بدورها بتحرير موادها العضوية في دم الدودة مباشرة، ونظرا لأن غاز كبريتيد الهيدروجين معروف بسميته، فإنه يلتصق فوق الهيموجلوبين ويمنع الاكسجين من العمل الأمر الذي يمكن ان يعرض الدودة للاختناق. وهنا تأتي عظمة الخالق الذي جعل هيموجلوبين الدودة قابلا للتغير، بمعنى انه يمتلك طريقتين مختلفتين للتثبيت احداهما للأكسجين واخرى لغاز كبريتيد الهيدروجين.
مصادر آيلة للنضوب: واذا كانت المصارد المائية الحرارية تعتبر بمثابة الجنة لعدد كبير من الكائنات البحرية، الا أنها جنة مؤقتة، اذا يكفي ان يقع زلزال خفيف حتى يؤدي بالمصدر الى الانقلاب أو الاختفاء كليا تحت الركام، ولذا فإن هذه المصادر لا تبقى لأكثر من 10 سنوات الأمر الذي يدفع الكائنات البحرية كي تهاجر الى اماكن اخرى بعيدة بحثا عن مصدر جديد بغية تأمين ما تحتاج من غذاء والسؤال الذي يمكن ان يطرحه البعض، يتمثل بمدى قدرة بعض الكائنات الصغيرة كالمحار والاصداف على التنقل لمئات الكيلو مترات في بعض الاحيان كي تصل الى مصدر مائي حار، وهو ما يعتبر أمرا صعبا نظرا لعدم توفر الكمية اللازمة من الغذاء اثناء رحلتها، وفي هذا الصدد عكف خبير المحيطات البروفسور كريج سميث في جامعة هاواي على الموضوع وأتى بفكرة جديدة ربما تفسر لنا التساؤل السابق.
يقول سميث: “لاحظت انه بعد مرور سنوات عدة على نفوق احد الحيتان الكبرى وهبوطه بالكامل الى اعماق المحيطات، نجد ان ما تبقى من عظام مغمورة تحت الرواسب يؤدي الى ظهور جيل جديد من الحيوانات البحرية القريبة من تلك التي تظهر عند مصادر المياه الحارة، واستنتج سميث ان تفتت عظام الحيتان في غياب الاكسجين “خاصة عندما تكون مطمورة”، تنتج بدورها غاز الاكسجين الضروري للحياة في تلك الاعماق البعيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق